محمد فرحات عمر: "الدكتور شديد" الذي جمع بين الفلسفة، الكوميديا، وبطولات الشطرنج

في عالم الفن المصري، هناك أسماء تظل محفورة في الذاكرة بفضل موهبتها وتنوعها. أحد هذه الأسماء هو الفنان القدير محمد فرحات عمر، الذي ولد عام 1931. هو ليس مجرد ممثل أسعد الناس بكوميديا راقية، بل كان مثقفًا موسوعيًا جمع بين حفظ القرآن الكريم، وبطولات الشطرنج، والدراسات الفلسفية العميقة، والتأليف الأكاديمي.
نشأة استثنائية: من المسجد إلى المسرح
تنتمي عائلة محمد فرحات عمر إلى جذور تاريخية مثيرة. جده "عمر" قدم إلى مصر مع جيش إبراهيم باشا، وتزوج في الدقهلية وأنجب ولدين: فرحات وإسماعيل. كان والد الفنان مهندسًا للآثار، ووالدته مدرسة، وهو الابن الوحيد لوالدته وله أربعة إخوة غير أشقاء من والده.
في عمر العامين، توفي والده وترك له ثروة معتبرة (17 فدانًا ومنزلًا)، وتولت والدته تربيته بشدة وحرص على غرس أفضل القيم فيه. كان طفلًا مواظبًا على صلاة الفجر في مسجد الحسين، وحافظًا للقرآن الكريم ومجودًا له بصوت جميل.
انتقل للعيش في شارع رمسيس بالعباسية، وهناك في مدرسة بحي العباسية، بدأ تعلم فن الإلقاء والتمثيل، وهي أولى خطواته نحو عالم الأضواء.
من الفلسفة إلى النجومية: رحلة تعليمية وفنية فريدة
بعد حصوله على شهادة "البكالوريا"، أراد محمد فرحات عمر الالتحاق بمعهد التمثيل. هناك، التقى بالفنان الكبير حسين رياض، الذي أقنعه بأهمية استكمال دراسته أولًا قبل التفرغ للفن، مؤكدًا على أهمية التعليم في بناء ثقافة الفنان.
استمع محمد فرحات عمر للنصيحة وقدم أوراقه لكلية الآداب، قسم الفلسفة بجامعة القاهرة. لم يمنعه ذلك من ممارسة شغفه بالتمثيل؛ فالتحق بفريق التمثيل بالجامعة، والذي كان يدربه الفنان زكي طليمات. خلال مرحلة الليسانس، شارك في مسرحية "30 يوم في السجن" على مسرح الريحاني، وقدم دور "أمشير أفندي"، ليحصد عنه كأس يوسف وهبي على مستوى الجامعات. كما شارك في حفلات أضواء المدينة عام 1965.
بعد التخرج، عمل لفترة بالتدريس، ثم واصل مسيرته الأكاديمية بحصوله على شهادة الماجستير عام 1965 بتقدير "جيد جدًا" عن رسالته حول "طبيعة القانون العلمي"، وقد أشرف عليها الدكتور زكي نجيب محمود. ثم نال شهادة دكتوراه الفلسفة عام 1968. ليس هذا فحسب، بل ألف كتابًا بعنوان "فن المسرح"، والذي يُدرس حتى الآن في المعهد العالي للتمثيل، مما يؤكد عمق ثقافته وفكره.
"الدكتور شديد": شخصية خالدة في ذاكرة الكوميديا المصرية
مع بداية فرقة "ساعة لقلبك" الإذاعية، التحق بها محمد فرحات عمر، ليشارك نجومًا مثل الخواجة بيجو، المعلم شكل، الرغاية، وأبو لمعة. وبفضل نجاح الفرقة الإذاعية، تكونت فرقة "ساعة لقلبك" المسرحية التي قدمت العديد من المسرحيات، وكانت تعرض كل صيف على مسارح الإسكندرية.
أما شخصية "الدكتور شديد" الأيقونية، فقد ابتكرها عبد الفتاح السيد، مؤلف اسكتشات الفرقة الإذاعية. هي شخصية الطبيب البيطري كثير النسيان، الذي يتردد على المطعم ويسأل الجارسون بلازمته الشهيرة: "إلا قول لي يا ابني هو أنا أتعشيت ولا لسة؟". هذه اللازمة، التي ألقاها لأول مرة في مسرحية ذات فصل واحد على مسرح الأزبكية عام 1956، نالت استحسان الجمهور والتصقت به، ليُطلب منه أداؤها في جميع الأفلام التي شارك بها، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من هويته الفنية.
بين الوظائف الحكومية والإذاعة البريطانية والعودة للفن
على الرغم من نجاحه الفني، انسحب محمد فرحات عمر من الوسط الفني لفترة ليعمل في عدة وظائف حكومية، من بينها عضو بلجنة النشر بهيئة الكتاب، مسؤولًا عن كتب الفلسفة.
كما انضم إلى هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في لندن، حيث عمل بالقسم العربي، وكانت وظيفته نقد وتعليق على الأفلام العربية والمسرحيات الكوميدية في الفترة من 1968 إلى 1977.
بعد تلك الفترة، عاد إلى القاهرة وشارك في عدة مسلسلات شهيرة مثل "زينب والعرش"، "أوراق الورد"، "أصل الحكاية كدبة"، و"عودة الروح". توقف نشاطه الفني لفترة، ثم عاد مرة أخرى عام 1996.
الشطرنج، الفلسفة، ورفض تدوين المذكرات
كان محمد فرحات عمر عاشقًا للعبة الشطرنج، ومثّل نادي الزمالك ومصر في العديد من البطولات، وحصل على جوائز عديدة، وكان ضمن قائمة أشهر لاعبي الشطرنج في مصر.
إلى جانب ذلك، كان عاشقًا للفلسفة والقراءة، وهو أحد رواد صالون العقاد الأدبي. امتلك مكتبة ضخمة تضم كتبًا في مجالات مختلفة، كما جمع الكتب النادرة، وكان يحب اللغة العربية شغفًا.
رفض الفنان محمد فرحات عمر محاولات دور النشر لإقناعه بكتابة مذكراته، قائلًا: "لا أتاجر بأيام الشقاء والتعب وكذلك أيام الهناء". هذا الموقف يعكس احترامه لخصوصيته وللتجربة الإنسانية.
لم يحصل على جوائز من الدولة في حياته ولا بعد وفاته، باستثناء مرة واحدة تم تكريمه في "مهرجان الضحك الأول" عام 2003، وهو مهرجان خاص كان ينظمه أنور عبد الله.
توفي إلى رحمة الله في 12 يوليو 1997 بعد وعكة صحية، تاركًا إرثًا فنيًا وفكريًا ثريًا يستحق أن يُذكر ويُحتفى به.
ما هي الشخصيات الفنية الأخرى التي تعرفها وجمعت بين موهبة التمثيل والثقافة العميقة كهذا الفنان؟
تعليقات
إرسال تعليق