هبة سليم: الجاسوسة العربية التي أبكت جولدا مائير وقصة الخيانة من أجل الوهم 💔

هبة سليم: الجاسوسة العربية التي أبكت جولدا مائير وقصة الخيانة من أجل الوهم 💔
هبة سليم: الجاسوسة العربية التي أبكت جولدا مائير وقصة الخيانة من أجل الوهم 💔

 



هبة سليم: الجاسوسة العربية التي أبكت جولدا مائير وقصة الخيانة من أجل الوهم 💔

تُعد قصة هبة سليم واحدة من أكثر قصص الجاسوسية إثارة للجدل والحزن في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. هي الجاسوسة العربية التي بكى عليها رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير، واصفةً إياها بأنها "قدمت لإسرائيل أكثر مما قدم زعماء إسرائيل". قصتها ليست مجرد خيانة لوطن، بل هي انعكاس لوهم سيطر على عقل فتاة، وصور لها أن إسرائيل دولة عظمى لا تُقهر.


من المهندسين إلى باريس: بداية الانجراف

نشأت هبة سليم في حي المهندسين الراقي بالقاهرة، وكانت تحمل عضوية في نادي الجزيرة، مما جعلها تندمج في وسط شبابي يهتم بالموضة والمغامرات. عندما حصلت على الثانوية العامة، أصرت على والدها – وكيل الوزارة بالتربية والتعليم – للسفر إلى باريس لإكمال تعليمها الجامعي. أمام إصرار الفتاة الجميلة، وافق الأب، وهو يلعن هذا الوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه. لكونها درست الفرنسية منذ طفولتها، تأقلمت بسرعة مع الحياة في باريس.


اللقاء المصيري: الوهم يتسلل

في باريس، جمعتها مدرجات الجامعة بفتاة يهودية من أصول بولندية. دعتها هذه الصديقة ذات يوم لسهرة في منزلها، وهناك التقت هبة بلفيف من الشباب اليهودي الذي تعجب من جرأتها كمصرية. أعلنت هبة صراحة أنها تكره الحرب وتتمنى لو أن السلام يعم المنطقة.

في زيارة أخرى، أطلعتها زميلتها على فيلم يصور الحياة الاجتماعية في إسرائيل وأسلوب الحياة في "الكيبوتس"، وأخذت تصف لها كيف أن الإسرائيليين ليسوا وحوشًا آدمية كما يصورهم الإعلام العربي، بل هم أناس على درجة عالية من التحضر والديمقراطية.

على مدار لقاءات طويلة مع الشباب اليهودي، استطاعت هبة أن تستخلص عدة نتائج كـ"حقائق ثابتة": أهمها أن إسرائيل قوية جدًا وأقوى من كل العرب، وأن أمريكا لن تسمح بهزيمة إسرائيل في يوم من الأيام بالسلاح الشرقي، ففي ذلك هزيمة لها. آمنت هبة أيضًا بأن العرب يتكلمون أكثر مما يعملون. هذه النتائج قادتها إلى حقد دفين على العرب.


تجنيد الموساد: الخيانة من أجل قناعات زائفة

وثقت هبة أيضًا في أحاديث ضابط الموساد الذي التقت به في شقة صديقتها. أوهمها الضابط باستحالة أن ينتصر العرب على إسرائيل وهم في خلاف دائم وتمزق خطير، في حين تتلقى إسرائيل الدعم اللازم في جميع المجالات من أوروبا وأمريكا.

كانت هذه الأفكار والمعتقدات التي اقتنعت بها الفتاة سببًا رئيسيًا لتجنيدها للعمل لصالح الموساد، دون إغراءات مادية أو عاطفية أثرت فيها، بل بثقة أكيدة في قدرة إسرائيل على حماية "أصدقائها". هكذا عاشت الفتاة أحلام الوهم والبطولة، وأرادت أن تقدم خدماتها لإسرائيل طواعية.


استدراج "الفقي": خيانة مزدوجة

تذكرت هبة فجأة المقدم فاروق الفقي، الذي كان يطاردها في نادي الجزيرة ويظهر إعجابه الشديد ورغبته الملحة في الارتباط بها. وتذكرت وظيفته الهامة في مكان حساس بالقوات المسلحة المصرية.

في أول إجازة لها بمصر، انحصرت مهمتها الأساسية في تجنيده، وكان الثمن خطبتها له. فرح الضابط العاشق بعروسه، وبدأت تدريجيًا تسأله عن بعض المعلومات والأسرار الحربية، وبالذات مواقع الصواريخ الجديدة التي وصلت من روسيا. كان يتباهى أمامها بأهميته ويتكلم في أدق الأسرار العسكرية، ويأتي بالخرائط زيادة في شرح التفاصيل.

أرسلت هبة سليم على الفور عدة خطابات إلى باريس بما لديها من معلومات. عندما تبينت إسرائيل خطورة وصحة ما تبلغه هذه الفتاة لهم، اهتموا بها اهتمامًا فوق الوصف، وبدأوا في توجيهها إلى الأهم في تسليح ومواقع القوات المسلحة، وبالذات قواعد الصواريخ والخطط المستقبلية لإقامتها. سافرت هبة إلى باريس مرة ثانية تحمل في حقيبتها عدة صفحات دونت بها معلومات غاية في السرية والأهمية لدرجة حيرت المخابرات الإسرائيلية.

عرض عليها ضابط الموساد عشرة آلاف فرنك فرنسي ومبالغ أكبر وهدايا ثمينة وحياة رغدة في باريس، لكن هبة رفضت النقود بشدة، وقبلت فقط السفر إلى القاهرة على نفقة الموساد بعد ثلاثة أشهر من إقامتها بباريس.

لم يكن المقدم فاروق الفقي بحاجة إلى التفكير في التراجع، إذ كانت هبة تعشش في قلبه وتستحوذ على عقله، ولم يعد يملك عقلًا ليفكر، بل طاعة عمياء. سقط ضابط الجيش المصري في بئر الخيانة، ليصير عميلًا للموساد، وتمكن من تسريب وثائق وخرائط عسكرية موضحًا عليها منصات الصواريخ "سام 6" المضادة للطائرات، التي كانت القوات المسلحة تسعى ليل نهار لنصبها لحماية مصر من غارات العمق الإسرائيلية.


كشف الخيانة والقبض على الجواسيس

لاحظت القيادة العامة للقوات المسلحة وجهازي المخابرات العامة والحربية أن مواقع الصواريخ الجديدة تُدمر أولًا بأول بواسطة الطيران الإسرائيلي حتى قبل أن يجف الأسمنت المسلح بها، وحدثت خسائر جسيمة في الأرواح، وتعطيل في تقدم العمل وإنجاز الخطة الموضوعة لإقامة حائط الصواريخ المضادة للطائرات.

تزامنت الأحداث مع وصول معلومات لرجال المخابرات المصرية بوجود عميل "عسكري" قام بتسريب معلومات سرية جدًا إلى إسرائيل. بدأ شك مجنون في كل شخص ذي أهمية في القوات المسلحة، وفي مثل هذه الحالات لا يُستثنى أحد بدءًا من وزير الدفاع.

اتسعت دائرة الرقابة التلفزيونية والبريدية لتشمل دولًا كثيرة أخرى، مع رفع نسبة المراجعة والرقابة إلى مائة في المائة من الخطابات وغيرها، كل ذلك لمحاولة كشف الكيفية التي تصل بها هذه المعلومات إلى الخارج. كما بدأت رقابة قوية وصارمة على حياة وتصرفات كل من تتداول أيديهم هذه المعلومات من القادة، وكانت رقابة لصيقة وكاملة، وقد تبينت طهارتهم ونقائهم. ثم أُدخل موظفو مكاتبهم في دائرة الرقابة ومساعدوهم ومديرو مكاتبهم، وكل من يحيط بهم مهما صغرت أو كبرت رتبته.

في تلك الأثناء، كانت هبة سليم تعيش حياتها بالطول وبالعرض في باريس، وعرفت الخمر والتدخين وعاشت الحياة الأوروبية بكل تفاصيلها. نزفت عروبتها نزفًا من شرايين حياتها، وتهللت عندما عرض عليها ضابط الموساد زيارة إسرائيل، فلم تكن لتصدق أبدًا أنها مهمة إلى هذه الدرجة. وصفت هي بنفسها تلك الرحلة قائلة: "طائرتان حربيتان رافقتا طائرتي كحارس شرف وتحية لي." وهي إجراءات تكريمية لا تُقدم أبدًا إلا لرؤساء وملوك الدول الزائرين. في مطار تل أبيب، كان ينتظرها عدد من الضباط اصطفوا بجوار سيارة ليموزين سوداء تقف أسفل جناح الطائرة. عندما أدوا التحية العسكرية لها، تملكها شعور قوي بالزهو.

استقبلها في مكتبه مائير عاميت رئيس جهاز الموساد، وأقام لها حفل استقبال ضخمًا ضم نخبة من كبار ضباط الموساد على رأسهم مايك هراري الأسطورة. عندما عرضوا تلبية كل "أوامرها"، طلبت مقابلة جولدا مائير رئيسة الوزراء. وجدت على مدخل مكتبها صفًا من عشرة جنرالات إسرائيليين أدوا لها التحية العسكرية. قابلتها مسز مائير ببشاشة ورقة وقدمتها إليهم قائلة: "إن هذه الآنسة قدمت لإسرائيل خدمات أكثر مما قدمتم لها جميعًا مجتمعين". بعد عدة أيام، عادت إلى باريس وهي لا تصدق أن هذه الجنة "إسرائيل" يتربص بها العرب ليدمروها!!

في القاهرة، كان البحث لا يزال جاريًا على أوسع نطاق، والشكوك تحوم حول الجميع، إلى أن اكتشف أحد مراقبي الخطابات الأذكياء من المخابرات المصرية خطابًا عاديًا مرسلًا إلى فتاة مصرية في باريس، سطوره تفيض بالعواطف من حبيبها. لكن الذي لفت انتباه المراقب الذكي عبارة كتبها مرسل الخطاب تقول: "أنه قام بتركيب إيريال الراديو الذي عنده ذلك أن عصر إيريال الراديو قد انتهى." أدرك المراقب أن "الإيريال" يخص جهازًا لاسلكيًا للإرسال والاستقبال.

انقلبت الدنيا في جهازي المخابرات الحربية والمخابرات العامة وعند ضباط البوليس الحربي، وتشكلت عدة لجان من أمهر رجال المخابرات، ومع كل لجنة وكيل نيابة لإصدار الأمر القانوني بفتح أي مسكن وتفتيشه. كانت الأعصاب مشدودة حتى أعلى المستويات في انتظار نتائج اللجان، حتى عثروا على جهاز الإيريال فوق إحدى العمارات، واتصل الضباط في الحال باللواء فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية وأبلغوه باسم صاحب الشقة، فقام بإبلاغ الفريق أول أحمد إسماعيل وزير الدفاع (قبل أن يصبح مشيرًا) الذي قام بدوره بإبلاغ الرئيس السادات.

تبين أن الشقة تخص المقدم فاروق الفقي، وكان بحكم موقعه مطلعًا على أدق الأسرار العسكرية، فضلًا عن دوره الحيوي في منظمة سيناء. كان الضابط الجاسوس أثناء ذلك في مهمة عسكرية بعيدًا عن القاهرة. عندما اجتمع اللواء فؤاد نصار بقائد الضابط الخائن، رفض القائد أن يتصور حدوث خيانة بين أحد ضباط مكتبه، خاصة وأن المقدم فاروق يعمل معه منذ تسع سنوات، بل وقرر أن يستقيل من منصبه إذا ما ظهر أنه جاسوس للموساد. عندما دخل الخائن إلى مكتبه، كان اللواء حسن عبد الغني نائب مدير المخابرات الحربية ينتظره جالسًا خلف مكتبه بوجه صارم وعينين قاسيتين، فارتجف رعبًا وقد جحظت عيناه وقال في الحال: "هو أنتم عرفتوا؟؟".


اعترافات، حكم بالإعدام، وخطة خداع استراتيجية

عندما أُلقي القبض عليه، استقال قائده على الفور، ولزم بيته حزينًا على خيانة فاروق والمعلومات الثمينة التي قدمها للعدو. في التحقيق، اعترف الضابط الخائن تفصيليًا بأن خطيبته جندته، وأنه رغم اطلاعه على أسرار عسكرية كثيرة، إلا أنه لم يكن يعلم أنها ستفيد العدو. عند تفتيش شقته، أمكن العثور على جهاز اللاسلكي المتطور الذي يبث من خلاله رسائله، وكذا جهاز الراديو ونوتة الشفرة، والحبر السري الذي كان بزجاجة دواء للسعال. ضُبطت أيضًا عدة صفحات تشكل مسودة بمعلومات هامة جدًا معدة للبث، ووُجدت خرائط عسكرية بالغة السرية لأحشاء الجيش المصري وشرايينه، تضم مواقع القواعد الجوية والممرات والرادارات والصواريخ ومرابض الدفاعات الهامة.

في سرية تامة، قُدم سريعًا للمحاكمة العسكرية التي أدانته بالإعدام رميًا بالرصاص. استولى عليه ندم شديد عندما أخبروه بأنه تسبب في مقتل العديد من العسكريين من زملائه من جراء الغارات الإسرائيلية، وأخذوه في جولة ليرى بعينه نتائج تجسسه، فأبدى استعداده مرات عديدة للقيام بأي عمل يأمرونه به.

بعد دراسة الأمر بعناية، وُجد أنه يمكن الاستفادة من المركز الكبير والثقة الكاملة التي يضعها الإسرائيليون في هذا الثنائي. تقرر أن يستمر في نشاطه كالمعتاد، خاصة وأن الفتاة لم تعلم بعد بأمر القبض عليه والحكم بإعدامه.

في خطة بارعة من المخابرات الحربية المصرية، أخذوه إلى فيلا محاطة بحراسة مشددة، وبداخلها نخبة من أذكى وألمع رجال المخابرات المصرية تتولى "إدارة" الجاسوس وتوجيهه، وإرسال الرسائل بواسطة جهاز اللاسلكي الذي أحضرته له الفتاة ودربته عليه. كانت المعلومات التي تُرسل هي بالطبع من صنع المخابرات الحربية، وتم توظيفها بدقة متناهية في تحقيق مخطط الخداع، حيث كانت حرب أكتوبر قد اقتربت، وهذه هي إحدى العمليات الرئيسية للخداع التي ستترتب عليها أمور استراتيجية مهمة بعد ذلك.

لقد كان من الضروري الإبقاء على هبة في باريس والتعامل معها بواسطة الضابط العاشق. استمر الاتصال معها بعد القبض عليه لمدة شهرين. عندما استشعرت القيادة العامة أن الأمر أخذ كفايته، وأن القيادة الإسرائيلية قد وثقت بخطة الخداع المصرية وابتلعت الطعم، تقرر استدراج الفتاة إلى القاهرة بهدوء، لكي لا تهرب إلى إسرائيل إذا ما اكتشف أمر خطيبها المعتقل.


استدراج هبة ونهاية القصة

في اجتماع موسع، وُضعت خطة القبض على هبة. عُهد إلى اللواء حسن عبد الغني ومعه ضابط آخر بالتوجه إلى ليبيا لمقابلة والدها في طرابلس، حيث كان يشغل وظيفة كبيرة هناك. عرّفاه على شخصيتهما وشرحا له أن ابنته هبة التي تدرس في باريس تورطت في عملية اختطاف طائرة مع منظمة فلسطينية، وأن الشرطة الفرنسية على وشك القبض عليها. وما يهم هو ضرورة هروبها من فرنسا لعدم توريطها، ولمنع الزج باسم مصر في مثل هذه العمليات الإرهابية. طلبا منه أن يساعدهما بأن يطلبها للحضور لرؤيته حيث إنه مصاب بذبحة صدرية.

أرسل الوالد برقية عاجلة لابنته، فجاء ردها سريعًا ببرقية تطلب منه أن يغادر طرابلس إلى باريس، حيث إنها حجزت له في أكبر المستشفيات هناك، وأنها ستنتظره بسيارة إسعاف في المطار، وأن جميع الترتيبات للمحافظة على صحته قد تم اتخاذها.

لكي لا تترك المخابرات المصرية ثغرة واحدة قد تكشف الخطة بأكملها، تم إبلاغ السلطات الليبية بالقصة الحقيقية، فتعاونت بإخلاص مع الضابطين من أجل اعتقال الجاسوسة المصرية. تم حجز غرفة في مستشفى طرابلس وإفهام الأطباء المسؤولين مهمتهم وما سيقومون به بالضبط. بعدما أرسل والدها ردًا بعدم استطاعته السفر إلى باريس لصعوبة حالته الصحية، حضر شخصان من باريس للتأكد من صحة البرقية وخطورة المرض. سارت الخطة كما هو مرسوم لها، وذهب الإسرائيليان إلى المستشفى وتأكدا من الخبر، فاتصلا في الحال بالفتاة التي ركبت الطائرة الليبية في اليوم التالي إلى طرابلس.

على سلم الطائرة، عندما نزلت هبة عدة درجات، كان الضابطان المصريان في انتظارها، وصحباها إلى حيث تقف الطائرة المصرية على بعد عدة أمتار من الطائرة الليبية. سألتهما: "إحنا رايحين فين؟" فرد أحدهما: "المقدم فاروق عايز يشوفك." فقالت: "هو فين؟" فقال لها: "في القاهرة." صمتت برهة ثم سألت: "أمال أنتم مين؟" فقال اللواء حسن عبد الغني: "إحنا المخابرات المصرية."

عندما أوشكت أن تسقط على الأرض، أمسكا بها وحملاها حملًا إلى الطائرة التي أقلعت في الحال، بعد أن تأخرت ساعة عن موعد إقلاعها في انتظار الطائرة القادمة من باريس بـ"الهدية الغالية". لقد تعاونت شرطة المطار الليبي في تأمين انتقال الفتاة لعدة أمتار حيث تقف الطائرة المصرية، وذلك تحسبًا من وجود مراقب أو أكثر صاحب الفتاة في رحلتها بالطائرة من باريس قد يقدم على قتل الفتاة قبل أن تكشف أسرار علاقتها بالموساد.


النهاية المأساوية: العدالة تُنفذ

بلا شك، اعتقال الفتاة بهذا الأسلوب الماهر جعلها تتساءل عن القيمة الحقيقية للوهم الذي عاشته مع الإسرائيليين، فقد تأكدت أنهم غير قادرين على حمايتها أو إنقاذها من حبل المشنقة. وهذا ما جعلها تعترف بكل شيء بسهولة بالتفصيل، منذ أن بدأ التحقيق معها في الطائرة بعد إقلاعها مباشرة.

بعد أيام قليلة من اعتقالها، تبين لها وللجميع عجز الإسرائيليين عن حماية إسرائيل نفسها وعدم قدرتهم على إنقاذها. فقد جاءت حرب أكتوبر وتدمير خط بارليف بمثابة الصدمة التي أذهلت أمريكا قبل إسرائيل. فالخداع المصري كان على أعلى مستوى من الدقة والذكاء. وكانت الضربة صائبة، إذ أربكت العدو وأشلته، لولا المدد العسكري الأمريكي والأسلحة المتطورة والصواريخ السرية والمعونات وإرسال الطيارين والفنيين الأمريكان كمتطوعين.

لقد خسرت إسرائيل في ذلك الوقت من المعركة حوالي مائتي طائرة حربية، ولم تكن تلك الخسارة تهم القيادة الإسرائيلية بقدر ما خسرته من طيارين ذوي كفاءة عالية قتلوا في طائراتهم، أو انهارت أعصاب بعضهم ولم يعودوا صالحين للقتال. ولقد سبب سقوط الطائرات الإسرائيلية بالعشرات حالة من الرعب بعد عدة أيام من بدء المعركة، إلى أن وصلت المعونات الأمريكية لإسرائيل في شكل طيارين وفنيين ووسائل إعاقة وتشويش حديثة.

تبخرت أوهام الجاسوسة هبة سليم، وأيقنت أنها كانت ضحية الوهم الذي سيطر على فكرها وسرى في شرايينها لمدة طويلة لدرجة أنها ظنت أنها تعيش الواقع من خلاله، لكن ها هي الحقائق تتضح بلا رتوش أو أكاذيب.

حُكم عليها بالإعدام شنقًا بعد محاكمة منصفة اعترفت صراحة أمامها بجريمتها، وأبدت ندمًا كبيرًا على خيانتها وتقدمت بالتماس لرئيس الجمهورية لتخفيف العقوبة، ولكن التماسها رُفض.

كانت تعيش أحلك أيامها في السجن تنتظر تنفيذ الحكم، عندما وصل هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي (اليهودي الديانة) لمقابلة الرئيس السادات في أسوان، في أول زيارة له إلى مصر بعد حرب أكتوبر. حملته جولدا مائير رسالة إلى السادات ترجوه تخفيف الحكم على الفتاة. ومن المؤكد أن كيسنجر كان على استعداد لوضع ثقله كله وثقل دولته خلف هذا الطلب.

تنبه الرئيس السادات، الذي يعلم بتفاصيل التحقيقات مع الفتاة وصدور الحكم بإعدامها، إلى أنها ستصبح مشكلة كبيرة في طريق السلام. فنظر إلى كيسنجر قائلًا: "تخفيف حكم؟.. ولكنها أعدمت..!!" دُهش كيسنجر وسأل الرئيس: "متى؟" ودون أن ينظر لمدير المخابرات الحربية، قال السادات كلمة واحدة: "النهاردة". وبالفعل، تم تنفيذ حكم الإعدام شنقًا في هبة سليم في اليوم نفسه في أحد سجون القاهرة.

أما الضابط العاشق – المقدم فاروق عبد الحميد الفقي – فقد استقال قائده من منصبه لأنه اعتبر نفسه مسؤولًا عنه بالكامل. عندما طلبت منه القيادة العامة سحب استقالته، رفض بشدة. وأمام إصرار القيادة على ضرورة سحب استقالته، خاصة وأن الحرب كانت وشيكة، اشترط القائد للموافقة على ذلك أن يقوم هو بتنفيذ حكم الإعدام في الضابط الخائن. ولما كان هذا الشرط لا يتفق والتقاليد العسكرية وما يُتبع في مثل هذه الأحوال، فقد رفع طلبه إلى وزير الدفاع "الحربية" الذي عرض الأمر على الرئيس السادات "القائد الأعلى للقوات المسلحة" فوافق فورًا ودون تردد.

عندما جاء وقت تنفيذ حكم الإعدام رميًا بالرصاص في الضابط الخائن، لا أحد يعرف ماذا كان شعور قائده وهو يتقدم ببطء مسترجعًا في شريط سريع تسع سنوات مرت عليهما في مكتب واحد، تسع سنوات كان بعضها في سواد الليل وبعضها تتلألأ خلاله ومضات الأمل قادمة من بعيد، الأمل في الانتصار على العدو. وبينما كان يخطط لحرب أكتوبر، كان بمكتبه هذا الخائن الذي باع الوطن والأمن وقتل بخيانته أبرياء. لا أحد يعرف ماذا قال القائد له وماذا كان رد الضابط عليه. هل طلب منه أن ينطق بالشهادتين، وأن يطلب المغفرة من الله؟ لا أحد يعرف. لكن المؤكد أنه أخرج مسدسه من جرابه وصوبه على رأس الضابط وأطلق طلقتين عليه كما تقضي التعليمات العسكرية في حالة الإعدام.


هذه القصة تظل تذكيرًا مؤلمًا بالخيانة وعواقبها، وبمدى تأثير الأوهام على حياة الأفراد ومصير الأوطان. ما هو الجانب الأكثر تأثيرًا في قصة هبة سليم بالنسبة لك؟

تعليقات