القصر العالي: تحفة تاريخية في جاردن سيتي.. صراع "الوقاد" لإنقاذ إرث مضى!

القصر العالي: تحفة تاريخية في جاردن سيتي.. صراع "الوقاد" لإنقاذ إرث مضى!
في قلب القاهرة، وتحديدًا في المنطقة التي تُعرف اليوم بـ"جاردن سيتي"، كان يقف قصرٌ أسطوري يحمل اسم "القصر العالي". هذا الصرح، الذي كان أول بناء يُشيّد في المنطقة عام 1820، ليس مجرد مبنى قديم؛ بل هو شاهد على حقبة ذهبية، ورمز للعمارة الفخمة، ومحور لقصة كفاح رجل قرر إنقاذ جزء من تاريخ مصر من النسيان.
"القصر العالي": تحفة معمارية ومقر للمشورة
كان "القصر العالي" يتميز بموقعه الاستراتيجي؛ يطل غربًا على نهر النيل، وشرقًا على شارع القصر العيني، ويحده شمالًا قصر أحمد باشا رفعت، وجنوبًا طريق يفصله عن القصر العيني. لم يكن مجرد قصر، بل كان تحفة معمارية حقيقية، محاطًا بسور وحديقة غناء مزروعة بأندر الأشجار من الفاكهة وشجر الزينة، وخاصة أشجار المانجو النادرة.
اكتسب القصر أيضًا شهرة باسم "قصر المشورة"، وذلك لأن إبراهيم باشا عقد فيه أول مجلس للمشورة عام 1829، لمناقشة شؤون الدولة المدنية والعسكرية، مما يبرز أهميته التاريخية والسياسية في تلك الحقبة.
ملكية وتحولات: من إبراهيم باشا إلى خوشيار هانم
بعد وفاة إبراهيم باشا، آل القصر إلى ملكية الحكومة. ثم وهبه عباس حلمي الأول إلى الأمير إسماعيل، الذي أصبح لاحقًا الخديوي إسماعيل. الأخير أهدى القصر لوالدته خوشيار هانم بعد أن قام بترميمه بعناية فائقة، ونقش على واجهته أول حرفين من اسمه ولقبه (K I). في هذا القصر، وُلد ابنه الخديوي توفيق.
اهتمت الوالدة باشا بالقصر اهتمامًا بالغًا؛ فرممته سنة 1863، وزودته بأفخم الأثاث، وجلبت له تحفًا نادرة وأشجارًا فريدة عام 1880، مما زاده فخامة وجمالًا.
بيع، هدم، وظهور بطل غير متوقع: الشيخ علي الوقاد
لكن بعد نفي الخديوي إسماعيل، اضطرت خوشيار هانم لبيع القصر للحكومة لتسديد ديونها. ثم باعت الحكومة القصر إلى الدائرة السنية، التي قامت ببيع كل أثاثه وتحفه في مزاد علني عام 1900. كان من أبرز المشترين في هذا المزاد محمد بك المنشاوي، الذي اشترى شجر المانجو النادر ونقله إلى عزبته في محافظة الغربية.
في عام 1906، صدر قرار بهدم القصر بالكامل وبيع أجزائه. اشترت شركة "شارل ماكس" القصر وهدمته لبناء حي جاردن سيتي الحديث، وبدأت في تقسيم الأرض وبيعها.
لكن هنا يظهر بطل غير متوقع في المشهد: الشيخ علي الوقاد. كان الشيخ علي رجلًا معمّمًا، شيخًا وتاجر بخور وخيزران، ورائدًا في إدخال صناعة البامبو إلى مصر. استورد أعواد البامبو من الهند، وجلب عمالًا من فرنسا، وافتتح مصنعًا في شارع رمسيس (الملكة نازلي وقتها) بجوار مسجد أولاد عنان (مسجد الفتح حاليًا).
مغامرة "الوقاد": إنقاذ واجهة القصر وبناء إرث جديد
قرر الشيخ علي الوقاد ألا يسمح لتراث القصر بالضياع، فقام بشراء واجهته، أبوابه، بانيو من المرمر، وحتى سيارة فورد، بحوالي 700 جنيه ذهبي. بدأ مشروعه الطموح لنقل هذه الأجزاء إلى منزله في صحراء المماليك.
استغرقت عملية النقل وإعادة التركيب عشر سنوات كاملة، بمساعدة عمال مصريين، وإيطاليين، وأتراك. تم إعادة تركيب واجهة القصر لتكون مدخل بيته وحديقته الضخمة، لتصبح شاهدًا على شغفه بالتاريخ والفن.
صمود وإهمال: القصر اليوم وأهمية توثيقه
بالرغم من الإهمال الذي تعرض له الموقع، ما زالت واجهة القصر وأبوابه صامدة حتى اليوم، بفضل أحفاد الشيخ علي الوقاد الذين حافظوا على قيمتها. من الداخل، يمكن ملاحظة البوابات المصنوعة من حجر فص نحيت، والأبواب من الخشب العزيزي، والشبابيك المزينة بحديد خرط، والتي تحمل الأحرف "K I" الأصلية.
على يمين الداخل، يوجد مسجد ومدفن الوقاد الذي بُني عام 1942، لكنه تأثر بزلزال عام 1992. وفي أحد الأركان، لا تزال توجد الرحايا الجرانيت، والحوض المرمرى بجوار هيكل سيارة الفورد.
معركة تسجيل الأثر: كفاح من أجل التاريخ
اضطر الشيخ علي الوقاد، ورثته من بعده، لخوض صراع طويل لتسجيل المكان كأثر. رُفض طلبه في عام 1995 بحجة "عدم الجدوى"، لكن بعد سنوات من المحاولات المستمرة، تم تسجيل واجهة القصر والبوابات بقرار إداري بتاريخ 31 مايو 1999، وأصبح المكان يتبع آثار شرق القاهرة. للأسف، في عام 2006، سُرقت واجهة أحد الشبابيك من الحديد الخرط، مما يسلط الضوء على تحديات الحفاظ على التراث.
القصر العالي ليس مجرد مبنى اندثر؛ إنه عن قيمة، هوية، فن، وتاريخ، وعن ناس تحب بلدها، وعن رجل قرر أن يحارب الزمن ويحافظ على جزء من تاريخ مصر بيده. إنه تاريخ يجب أن نواصل تذكره وروايته للأجيال القادمة.
هل تعرف قصصًا أخرى عن شخصيات مصرية قامت بجهود فردية للحفاظ على التراث؟
تعليقات
إرسال تعليق