قبة علي بن عبد الواحد – أثر تاريخي في قلب القاهرة

قبة علي بن عبد الواحد – أثر تاريخي في قلب القاهرة
الموقع وأهمية القبة
تقع قبة علي بن عبد الواحد في شارع القربية المتفرع من شارع الخيامية بحي وسط القاهرة، وهو أحد أحياء القاهرة التاريخية التي تزخر بالآثار الإسلامية البارزة. تحمل هذه القبة رقم أثر 359، وتُعد من الشواهد المعمارية المهمة التي تجسد عمق الحضارة الإسلامية في مصر خلال القرن الحادي عشر الهجري.
المنشئ وسيرته العلمية
أنشأ هذه القبة الطبيب علي بن عبد الواحد بن محمد بن صغير، الذي وُصف بأنه من أعظم أطباء مصر في العصر المملوكي. كان عالمًا بارعًا في فن الطب، وتولى منصب رئيس الأطباء بالديار المصرية في عهد السلطان الظاهر برقوق.
وُلد بالقاهرة ونشأ فيها، وتلقى علومه على يد كبار الأطباء والعلماء حتى أصبح مرجعًا طبيًا لأهل زمانه. امتاز بدقة تشخيصه وحنكته في وصف العلاج، كما كان واسع الاطلاع على مؤلفات الأطباء المتقدمين والمتأخرين.
من أبرز ما يُذكر عنه أنه كان شديد الورع، عادلًا في ممارسته للطب، حيث كان يراعي الفوارق الاجتماعية في تقدير ثمن الدواء. فقد يصف علاجًا بثمن مرتفع للأثرياء، بينما يقدمه للمعسرين بسعر زهيد لا يتجاوز فلسًا واحدًا، ما جعله مثالًا للطبيب الإنسان.
رحلته مع السلطان برقوق ووفاته
في عام 796هـ، رافق السلطان الظاهر برقوق في رحلة إلى حلب لعلاج السلطان العثماني. وهناك وافته المنية يوم الجمعة، العاشر من ذي الحجة 796هـ. وقد دُفن أولًا بحلب، ثم نُقل جثمانه إلى القاهرة حيث أُعيد دفنه في قبته الكائنة بشارع القربية، ليظل ذكره خالدًا بين أهل الطب والعلم.
تاريخ إنشاء القبة وتجديدها
شُيدت القبة عام 1087هـ / 1676م بأمر الطبيب علي بن عبد الواحد. وعلى مر العصور، شهدت القبة أعمال ترميم وتجديد للحفاظ على رونقها، ومن أبرز هذه التجديدات ما قام به شمس الدين محمد بن عبد الباقي، الذي ترك نقشًا تأسيسيًا يوضح مساهمته في إعمار القبة ودعاءه بالمغفرة له ولوالديه ولكل من أعان على تجديدها.
الوصف المعماري للقبة
تتميز القبة ببساطة تصميمها الخارجي، حيث تتوسط واجهتها نافذة مستطيلة الشكل مغطاة بالسلك المعدني. يعلو هذه النافذة لوح تأسيسي يخلد تاريخ الإنشاء.
أما القبة الخارجية، فقد جاءت خالية من الزخارف، باستثناء شريط كتابي دائري يحيط برقبتها من الخارج، وينتهي البناء بعنصر خشبي على هيئة بصلة تزين أعلاها.
الجزء الداخلي للقبة
من الداخل، تُعد القبة غرفة مربعة صغيرة:
-
الضلع الجنوبي الغربي يضم نافذة حديدية ذات ضلفتين خشبيتين.
-
الضلع الشمالي الغربي يحتوي نافذة إضافية صغيرة.
-
تنتصف الغرفة تركيبة حجرية تمثل العنصر المحوري للبناء.
النقوش التأسيسية
تتزين القبة بعدة نصوص تأسيسية، أبرزها النقش الذي يعلو نافذتها الرئيسية:
"أنشأ هذه القبة المباركة وجدد هذا المسجد المبارك الفقير إلى الله تعالى الراجي عفو ربه الكريم شمس الدين محمد بن عبد الباقي، غفر الله له ولوالديه ولمن أعان على عمارته وللمسلمين، يا رب العالمين."
كما كُتب على عتبة أحد أبوابها:
"أنشأ هذا المكان المبارك علي بن الفقير حسين، وأوصى بإنشائه في سنة 1087هـ."
الدلالات المعمارية والفنية
رغم بساطتها، تُعد القبة نموذجًا مميزًا لعمارة القباب في العصر العثماني بمصر. فهي تعكس:
-
الطابع الزهدي في الزخرفة الخارجية.
-
البراعة الهندسية في توزيع النوافذ لتوفير الإضاءة والتهوية.
-
المزج بين النقش والعمارة في اللوحات التأسيسية التي تحمل قيمة تاريخية وروحية.
الأهمية التاريخية لقبة علي بن عبد الواحد
تُمثل القبة أكثر من مجرد بناء معماري؛ فهي شاهد على إسهامات الأطباء المسلمين في الحضارة الإسلامية، ودليل على المكانة المرموقة التي كان يحظى بها العلم وأهله. كما تؤكد القبة على تقليد راسخ في تكريم العلماء والأطباء عبر تخصيص أضرحة وقباب تحفظ سيرتهم وتخلد ذكراهم.
قبة علي بن عبد الواحد في السياق الحضاري للقاهرة
تقع القبة في قلب القاهرة التاريخية، بالقرب من شارع الخيامية الذي اشتهر بصناعته التراثية. هذا الموقع يجعلها جزءًا من النسيج العمراني العريق للمدينة، ويضعها ضمن منظومة الآثار الإسلامية التي تستقطب الباحثين والزوار من مختلف أنحاء العالم.
إن قبة علي بن عبد الواحد ليست مجرد أثر معماري، بل هي رمز لعطاء رجل جمع بين العلم والإنسانية، وبين البراعة الطبية والورع الديني. إن المحافظة على مثل هذه الآثار يُعد واجبًا ثقافيًا وحضاريًا، لأنها تروي فصولًا من تاريخ مصر المشرق.
تعليقات
إرسال تعليق