قبة السلطان أبو سعيد قانصوه بمدينة القاهرة – تحفة معمارية خالدة من العصر المملوكي

قبة السلطان أبو سعيد قانصوه بمدينة القاهرة – تحفة معمارية خالدة من العصر المملوكي
قبة السلطان أبو سعيد قانصوه بمدينة القاهرة – تحفة معمارية خالدة من العصر المملوكي


قبة السلطان أبو سعيد قانصوه بمدينة القاهرة – تحفة معمارية خالدة من العصر المملوكي



تُعَدّ قبة السلطان أبو سعيد قانصوه إحدى أروع التحف المعمارية التي تزخر بها مدينة القاهرة، فهي شاهد خالد على عبقرية الفنان المصري القديم، وعلى براعة العمارة المملوكية التي بلغت أوجها في القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي. تقع هذه القبة البديعة في شارع السلطان أحمد بمنطقة منشية ناصر، ضمن نطاق قرافة المماليك الشرقية، وتُعَدّ من أهم المعالم الأثرية التي لا تزال تحتفظ برونقها وأصالتها حتى اليوم.


تاريخ بناء قبة السلطان أبو سعيد قانصوه

شُيّدت قبة السلطان أبو سعيد قانصوه في عام 904 هـ / 1499 م، في عهد أحد أبرز سلاطين دولة المماليك الجراكسة، وهو السلطان قانصوه الغوري الذي كان معروفًا بحبه للفنون والعمارة. وقد أُنشئت هذه القبة لتكون مقبرة فخمة للسلطان، تجمع بين العظمة الملكية وروحانية المكان، فكانت نموذجًا فريدًا يعكس فلسفة العمارة الإسلامية في تمجيد الخالق من خلال الجمال والتناسق.


الموقع الجغرافي وأهمية القرافة الشرقية

تقع القبة في قلب القرافة الشرقية، وهي من أعرق المناطق التاريخية في القاهرة الإسلامية، حيث تنتشر قباب السلاطين والأمراء والعلماء الذين عاشوا في العصر المملوكي. هذه المنطقة كانت بمثابة متحف مفتوح يضم آثارًا معمارية وزخرفية نادرة، من بينها قبة السلطان الغوري وقبة الأشرف قايتباي، وكلها تشهد على عظمة الفن المعماري الإسلامي في مصر.

وقد اختير موقع القبة بعناية فائقة، إذ تقع على محور بصري يربطها بعدد من المنشآت الدينية القريبة، مما يجعلها جزءًا من نسيج عمراني متكامل يمثل روح العصر المملوكي بكل تفاصيله.


الطراز المعماري لقبة السلطان قانصوه

تُعتبر القبة من أروع نماذج العمارة الحجرية المنحوتة في مصر المملوكية. فقد شُيّدت بالكامل من الحجر الجيري المشغول بدقة متناهية، وهو ما يمنحها طابعًا مهيبًا يليق بمقام السلطان.

وتتميّز القبة بزخارفها الهندسية الغنية التي تُعرف باسم الأطباق النجمية، وهي وحدات زخرفية على شكل نجوم متداخلة، بعضها كامل وبعضها أنصاف، تم تنفيذها بأسلوب بارع يعكس عبقرية الفنان المصري في استخدام أدوات النحت والتشكيل بالحجر.

أما الواجهة الرئيسية فتتزين بزخارف الدقماق الدقيقة، وهي عبارة عن زخارف هندسية ونباتية محفورة بعناية، تظهر فيها الظلال والعمق بشكل يخلق توازنًا بصريًا رائعًا بين الضوء والظل، وهو ما كان من سمات الفن المملوكي الراقي.


الزخارف والنقوش في قبة السلطان أبو سعيد قانصوه

إن أكثر ما يثير الإعجاب في هذه القبة هو تنوع النقوش والزخارف التي تغطي جدرانها الداخلية والخارجية. فقد جمع الفنان المصري بين الزخارف النباتية المتشابكة، والكتابات الكوفية والثلث التي تزيّن الإطارات الحجرية، وتتضمن آيات قرآنية وأدعية تذكّر بزوال الدنيا وبقاء الآخرة.

كما أن القبة تتزيّن من الداخل بمقرنصات حجرية دقيقة، تُظهر مدى التطور الذي بلغه فن النحت في تلك الفترة. هذه المقرنصات ليست مجرد عناصر زخرفية، بل تؤدي وظيفة إنشائية تساعد على توزيع الأحمال الهندسية للقبة بطريقة متوازنة.


جماليات الضوء والظل في التصميم المعماري

أحد أبرز ملامح العمارة المملوكية هو الاهتمام بعنصر الإضاءة الطبيعية داخل المباني، وقد نجح المعماري الذي صمّم قبة السلطان قانصوه في تحقيق توازن فريد بين الضوء والظل.

تتخلل القبة نوافذ صغيرة مغطاة بشبابيك من الجبس المزخرف والزجاج الملون، تسمح بدخول الضوء بطريقة ناعمة تُبرز روعة النقوش الحجرية الداخلية، وتمنح المكان جوًا روحانيًا هادئًا يليق بمقامه كمكان للدفن والتأمل.


القيمة الفنية والتاريخية للتصوير الفني من قبل الفنان سامح باهي

في العصر الحديث، ساهم الفنان الفوتوغرافي سامح باهي في إبراز الجمال الخفي لقبة السلطان أبو سعيد قانصوه من خلال عدسته الإبداعية. فقد التقط صورًا تُظهر التفاصيل الزخرفية الدقيقة والأبعاد الجمالية التي قد لا تراها العين المجردة بسهولة.

جاءت أعماله لتؤكد على أن التراث المصري لا يزال ينبض بالحياة، وأن العمارة المملوكية تستحق أن تُعاد دراستها وتوثيقها بالوسائل الفنية الحديثة. لقد نجح باهي في مزج الفن البصري المعاصر مع العمارة التاريخية الإسلامية في تناغم رائع يعيد تعريف الجمال التراثي.


الدلالات الرمزية والروحية للقبة

ليست القبة مجرّد بناء أثري، بل هي رمز للخلود والرفعة. تصميمها المستدير الذي يعلو الجدران المربعة يرمز إلى الانتقال من عالم الأرض إلى السماء، وهي فكرة متجذّرة في فلسفة العمارة الإسلامية التي تمزج بين المادي والروحي.

كما أن النقوش القرآنية والأدعية المنحوتة على الجدران تعكس روح التقوى والورع التي كانت تسود تلك الفترة، حيث كان الملوك والسلاطين يسعون إلى تخليد ذكراهم بأعمال معمارية تعبّر عن إيمانهم وخلودهم في التاريخ.


الترميم والحفاظ على القبة عبر العصور

على مرّ القرون، تعرّضت قبة السلطان أبو سعيد قانصوه لعوامل التعرية والإهمال، إلا أنّ جهود وزارة السياحة والآثار المصرية في العقود الأخيرة ساهمت في إعادة إحياء هذا الأثر العظيم.

تم تنفيذ عمليات ترميم دقيقة للحفاظ على النقوش والزخارف الأصلية دون المساس بروح المكان، باستخدام مواد مطابقة لما استُخدم في البناء الأصلي من الحجر الجيري والمونة الطبيعية. هذه الجهود المستمرة تُسهم في حماية التراث الإسلامي الفريد الذي تزخر به القاهرة التاريخية.


أهمية القبة في السياحة الثقافية بالقاهرة

تُعد قبة السلطان أبو سعيد قانصوه اليوم مقصدًا مهمًا لعشّاق السياحة الثقافية والتاريخية، فهي تمنح الزائر تجربة غنية تمزج بين العمق التاريخي والجمال الفني.
كما تمثل جزءًا من مسار العمارة المملوكية بالقاهرة، الذي يشمل قبابًا ومدارس ومساجد تعكس تنوّع الطرز المعمارية الإسلامية في مصر.

إن زيارة هذه القبة ليست مجرّد جولة في التاريخ، بل رحلة في روح الحضارة المصرية الإسلامية التي كانت وما تزال منارة للفن والإبداع.



تظل قبة السلطان أبو سعيد قانصوه من أعظم الشواهد على براعة المصريين في فن العمارة الإسلامية، حيث تتجلى فيها دقّة الحرفة وجمال التكوين وروعة الزخرفة.
إنها ليست مجرد أثر تاريخي، بل رسالة خالدة تُذكّرنا بأن الفن الحقيقي لا يزول، وأن إبداع الإنسان حين يُلهمه الإيمان يُخلّد في الحجر كما يُخلّد في الذاكرة.



تعليقات