مدرسة السلطان الأشرف برسباي بشارع المعز – درة العمارة المملوكية في قلب القاهرة
مدرسة السلطان الأشرف برسباي بشارع المعز – درة العمارة المملوكية في قلب القاهرة
تُعد مدرسة السلطان الأشرف برسباي إحدى التحف المعمارية البارزة في شارع المعز لدين الله الفاطمي، بحي الجمالية العريق في وسط القاهرة. تحمل المدرسة الرقم الأثري 175، وتُعد من أهم المنشآت التي تجسد روعة العمارة المملوكية في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي).
أنشأها السلطان الأشرف برسباي الدقماقي الجركسي سنة 826 – 827 هـ / 1423 – 1424 م، لتكون شاهدًا خالدًا على ازدهار الفن الإسلامي في مصر في عصر المماليك البرجية، ومركزًا للعلم والعبادة يجتمع فيه العلماء وطلاب الفقه والشريعة.
السلطان الأشرف برسباي – من العبودية إلى عرش المماليك
وُلد السلطان الملك الأشرف أبو النصر برسباي الدقماقي الجركسي سنة 780هـ / 1318م في بلاد الجركس لأب فقير، وعاش طفولة قاسية حيث عمل في خدمة أحد الحدادين. وبعد وفاة والده، باعت والدته ابنها لتاجر يهودي اصطحبه إلى مدينة حلب بالشام، وهناك تغيرت حياته تمامًا.
اشتراه الأمير قدماق المحمدي نائب ملطية، وقدّمه هدية إلى السلطان الظاهر برقوق، مؤسس دولة المماليك البرجية. أُعجب به السلطان وأدخله في طبقة الزمامية، ثم أعتقه وقرّبه إليه ليبدأ صعوده التدريجي في سلم المراتب العسكرية والإدارية.
في عهد السلطان الناصر فرج بن برقوق، عمل برسباي ساقيًا بالقصر السلطاني، ثم شارك في الأحداث السياسية والعسكرية العاصفة التي شهدتها الدولة. وبفضل دهائه وقوة شخصيته، تولّى مناصب رفيعة منها نائب طرابلس، وأمير مئة، ثم داودار كبير. وبعد سلسلة من الانقلابات، جلس على عرش السلطنة في 8 ربيع الآخر 825هـ / 1422م، واتخذ لقب "الملك الأشرف" وكنية "أبو النصر".
إنجازات السلطان الأشرف برسباي
استمر حكمه قرابة 16 عامًا ونصف حتى وفاته سنة 841هـ / 1438م، وتميز عهده بالاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي. ومن أبرز إنجازاته:
-
الانتصار على مملكة قبرص وأسر ملكها وإحضاره إلى القاهرة، في واحدة من أهم الحملات البحرية في تاريخ المماليك.
-
ضرب عملة جديدة عُرفت باسم "الأشرفية" لتوحيد النقد في البلاد ومنع التلاعب الاقتصادي.
-
تحريم النقود الفلورنسية وتثبيت العملة المحلية.
-
منع تقبيل الأرض بين يدي الملوك كنوع من الإصلاح الأخلاقي في بلاط الحكم.
-
سنّ تشريعات صارمة لحماية القيم الاجتماعية، منها منع خروج النساء دون إذن، وتنظيم ملبس الفلاحين والعسكر.
وكان برسباي رجلاً متدينًا، محبًا للعلماء، كثير الصدقات، وذا شخصية وقورة، وصفه المؤرخون بأنه طويل القامة، أشقر اللون، رزين الهيبة، يجلس لاستقبال الرعية يومي السبت والثلاثاء ليستمع إلى شكاواهم بنفسه.
المدرسة الأشرفية – تحفة فنية على طريق المعز
بنى السلطان الأشرف برسباي مدرسته الأشرفية في شارع المعز لدين الله، الذي يُعد اليوم أكبر متحف مفتوح للفن الإسلامي في العالم. وقد اختار موقعها بعناية ليخلّد اسمه في قلب القاهرة، حيث تتجاور المساجد والمدارس والمآذن المملوكية في تناغم معماري بديع.
تُعتبر المدرسة الأشرفية من أبرز نماذج العمارة المملوكية الناضجة، إذ جمعت بين الدقة الهندسية والزخرفة الفاخرة، وتضمنت مزيجًا متناغمًا من الوظائف التعليمية والدينية والجنائزية في آن واحد.
الوصف المعماري لمدرسة السلطان الأشرف برسباي
الواجهة الشرقية – لوحة فنية بصرية
تُعد الواجهة الشرقية من أجمل واجهات المدرسة، لما تحتويه من زخارف هندسية بديعة ونقوش دقيقة. ينتهي طرفها البحري بقبة فخمة ذات طراز مملوكي أصيل، تضفي على الكتلة المعمارية هيبة وجلالاً، وتُعد من أجمل قباب القاهرة التاريخية.
أما المئذنة فتقوم على قاعدة مربعة متينة، وتُقسم إلى ثلاث دورات، تنتهي الثالثة منها بأعمدة رشيقة تحمل شرفة دائرية مزخرفة. ويُعد تصميم المئذنة من أروع أمثلة النضج الفني في عمارة المماليك.
المدخل الرئيسي – فخامة الرخام والتناسق الهندسي
المدخل الرئيسي للمدرسة تحفة في حد ذاته، إذ كُسيت واجهته برخام أبيض وأسود مرصوف بطريقة هندسية متناغمة تُعرف بتقنية التكفيت الحجري. وعلى جانبيه نقوش كتابية رائعة تحمل آيات قرآنية وألقابًا سلطانية، تعكس عظمة المنشئ ومكانته.
تعلو المدخل مقرنصات دقيقة مصنوعة من الحجر المنحوت، فيما تتزين العتبات العليا بأشرطة من الرخام المزخرف تُعرف باسم الزرر، لتشكل لوحة معمارية فريدة في تفاصيلها ودلالاتها.
الصحن والإيوانات الأربعة
يُعد صحن المدرسة القلب المعماري للمبنى، حيث يتوسطه فناء مكشوف تحيط به أربعة إيوانات متقابلة متماثلة في تصميمها وزخرفتها.
ويُزيّن جدار الإيوانين الشرقي والغربي سطر كتابي طويل يُوضح الأعيان والأراضي التي أوقفها السلطان برسباي على المدرسة، وطرق صرف ريعها على الطلاب والعلماء وخدمة المسجد.
هذا التوثيق المنقوش يبرهن على اهتمام السلطان بتنظيم الأوقاف وضمان استدامة العمل التعليمي والديني داخل المدرسة.
القبة الضريحية – مزيج من الروحانية والفن
تُعد القبة الضريحية من أبرز عناصر المدرسة، وتقع عند الحافة الشمالية للواجهة الرئيسية. يمكن الوصول إليها من خلال الصحن الداخلي عبر بوابة خشبية مخروطية الشكل مُزخرفة بنقوش هندسية.
تضم القبة مقبرتين ملكيتين:
-
الأولى لوالدة السلطان الناصر محمد.
-
والثانية لابنه الناصري محمد.
وبذلك أصبحت القبة رمزًا للعائلة السلطانية ومكانًا لدفن آل برسباي، مما يضفي على المكان طابعًا أسريًا وروحانيًا خاصًا.
النقوش والكتابات التأسيسية
تُزين جدران المدرسة نقوش تأسيسية فريدة، منها النص البديع المنقوش على أحد ألواح الرخام، الذي جاء فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا. صدق الله العظيم.
أنشأ هذه المدرسة المباركة مولانا السلطان، سلطان الإسلام والمسلمين، قليل الكفرة والمشركين، محيي العدل في العالمين، قسم أمير المؤمنين، خادم الحرمين الشريفين، المالك الملك الأشرف، خلد الله مُلكه".
وقد وُضعت على الباب كسوة نحاسية تخلّد اسم المنشئ وتاريخ التجديد الذي تم عام 1332م، في عهد لجنة حفظ الآثار العربية.
المدرسة كمركز علمي وروحي
لم تكن المدرسة الأشرفية مجرد بناء معماري، بل كانت مركزًا علميًا دينيًا يُدرّس فيه الفقه الحنفي والشافعي والحديث والتفسير. كما احتوت على سكن للطلاب والعلماء، ومرافق خدمية تضمن استمرارية الحياة التعليمية.
وقد شهدت المدرسة عبر العصور نشاطًا علميًا كبيرًا، وتخرّج منها عدد من علماء الأزهر الذين ساهموا في نشر الفكر الوسطي المعتدل في العالم الإسلامي.
القيمة الأثرية والتاريخية للمدرسة الأشرفية
تُعد مدرسة السلطان برسباي تحفة معمارية نادرة تجمع بين الجمال والزهد، بين الفخامة الملوكية والروح الإسلامية المتواضعة. وهي اليوم واحدة من أهم معالم شارع المعز، المدرج ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، لما يحويه من مبانٍ تمثل مراحل تطور العمارة الإسلامية في مصر.
إن مدرسة السلطان الأشرف برسباي بشارع المعز ليست مجرد أثر تاريخي، بل صفحة ناطقة من تاريخ القاهرة المملوكية. تجمع بين العظمة المعمارية والرسالة الدينية والعلمية، لتبقى شاهدًا خالدًا على حضارة امتدت قرونًا ولا تزال تنبض بالحياة بين جدرانها المزخرفة.
من يقف أمام مدخلها أو يتأمل قبتها الشامخة، يشعر بعظمة سلطانٍ بدأ حياته عبدًا، ثم صار أحد أعظم حكام المماليك الذين تركوا إرثًا خالدًا في قلب القاهرة الإسلامية.







تعليقات
إرسال تعليق