اكتشاف استثنائي في قلب الإسكندرية – كبسولة زمنية تكشف أسرار الماضي المصري اليوناني
اكتشاف استثنائي في قلب الإسكندرية – كبسولة زمنية تكشف أسرار الماضي المصري اليوناني
في مشهد أثري مدهش يُعيدنا إلى عمق التاريخ الحديث للإسكندرية، أعلنت بعثة من المجلس الأعلى للآثار عن اكتشاف كبسولة رصاصية نادرة أثناء أعمال الحفائر الإنقاذية في إحدى المناطق السكنية الحديثة من المدينة.
هذا الاكتشاف لم يكن مجرد قطعة معدنية مدفونة في باطن الأرض، بل كان نافذة على زمنٍ مضى، تحمل بين طياتها عملاتٍ ثمينة ووثائق تاريخية تُضيء جانبًا من حياة عائلة يونانية بارزة ومظاهر التفاعل الحضاري في الإسكندرية خلال القرن العشرين.
الكبسولة الرصاصية داخل أساسات فيلا سلفاجو
أثناء أعمال الحفائر قرب أحد المواقع التي كانت تحتضن فيلا عائلة سلفاجو اليونانية الشهيرة، عُثر على كبسولة أسطوانية الشكل مصنوعة من الرصاص، مغلقة بإحكام داخل أساسات البناء.
وبعد فتحها في معمل الترميم التابع للمجلس الأعلى للآثار، كانت المفاجأة الكبرى: مجموعة من العملات النادرة ووثيقة مكتوبة بخطٍ يوناني جميل، مؤرخة بسنة 1937.
إن وجود هذه الكبسولة في أساس البناء يعكس تقاليد رمزية قديمة امتزجت فيها العقائد المصرية القديمة بالعادات اليونانية والرومانية، والتي تتمثل في دفن رموز تجلب الحظ والبركة في أساسات الأبنية الجديدة. وقد استمر هذا التقليد في الإسكندرية تحديدًا بسبب طبيعتها الكوزموبوليتانية وتعدد ثقافاتها.
تفاصيل محتويات الكبسولة الأثرية
عند فحص محتويات الكبسولة بدقة، تبيّن أنها تضم مجموعة مذهلة من العملات المعدنية من فترات تاريخية مختلفة، أبرزها:
-
عملات نحاسية وفضية تعود إلى عهد السلطان حسين كامل (1914 – 1917).
-
عملات ذهبية نادرة من فترة الملك فؤاد الأول (1922 – 1936)، بينها ثلاث عملات نادرة جدًا من فئة 20 و50 و100 قرش.
-
بعض العملات تحمل شعارات الدولة المصرية الملكية، ومنها النقش الشهير لـ"تاج مصر الملكي" وسيفين متقاطعين في المنتصف.
هذه العملات وُضعت بعناية داخل أكياس قماشية صغيرة، ما يدل على أن من قام بدفنها تعمد الحفاظ عليها كرمزٍ للرخاء المالي والازدهار الاقتصادي الذي كانت تشهده مصر في تلك الفترة.
الوثيقة اليونانية المؤرخة بعام 1937
الكنز الحقيقي داخل الكبسولة لم يكن فقط في المعادن الثمينة، بل في الوثيقة المكتوبة باليونانية، والتي حُفظت بحالة ممتازة رغم مرور ما يقارب التسعين عامًا.
عند ترجمتها، تبيّن أنها محضر رسمي لتوثيق وضع حجر الأساس لفيلا عائلة سلفاجو، بتاريخ مارس 1937، بحضور السيد كونستانتين سلفاجو ووالدته السيدة جوليا سلفاجو، تحت إشراف المهندس المعماري الفرنسي جان وولتر (Jean Walter)، أحد أبرز المهندسين العاملين في الإسكندرية في تلك الفترة.
وتذكر الوثيقة أن وضع العملات كان "رمزًا للثروة والأمل في مستقبلٍ مزدهر"، وجاء في نصها:
"ليكن هذا البيت عامرًا بالحب والرخاء كما هي مدينتنا الإسكندرية، ملتقى الشعوب والثقافات."
عائلة سلفاجو ودورها في تاريخ الإسكندرية الحديث
تُعد عائلة سلفاجو من أعرق العائلات اليونانية التي استقرت في الإسكندرية منذ أواخر القرن التاسع عشر.
عرفت العائلة بأعمالها التجارية الناجحة في مجال تجارة القطن والنقل البحري، وساهمت بشكل كبير في النهضة الاقتصادية والثقافية التي شهدتها المدينة في الحقبة الملكية.
كانت فيلا سلفاجو التي اكتُشفت أساساتها من أجمل الفيلات في الحي الأوروبي بالإسكندرية، ذات تصميم كلاسيكي فخم يعكس الطراز الفرنسي الحديث مع لمسات معمارية يونانية. وقد كانت تُعد مركزًا اجتماعيًا وثقافيًا يلتقي فيه مثقفو المدينة من مختلف الجنسيات.
تقاليد دفن العملات في الأساسات – من مصر القديمة إلى العصر الحديث
يُعتبر هذا الاكتشاف دليلاً على استمرار تقليد مصري قديم كانت جذوره تعود إلى العصور الفرعونية، حين كان المصريون القدماء يدفنون تمائم رمزية أو قطعًا ذهبية أسفل المعابد والمباني لجلب الحماية والبركة.
ومع قدوم الجاليات اليونانية والرومانية إلى الإسكندرية، تطوّر هذا الطقس ليتخذ طابعًا جديدًا، حيث كان أصحاب المنازل يضعون عملات أو رموزًا دينية في الأساسات، إيمانًا بأنها تجلب الرخاء وطول العمر للبناء.
وفي العصر الحديث، حافظت العائلات الأوروبية المقيمة في الإسكندرية، مثل سلفاجو، على هذه العادة ضمن الطقوس الاحتفالية لوضع حجر الأساس.
الرمزية الثقافية والاكتشافات الموازية في الإسكندرية
هذا الاكتشاف لا يُعتبر حالة فريدة، إذ تم خلال السنوات الأخيرة العثور على كبسولات مماثلة في مناطق أخرى من الإسكندرية، منها منطقة سان ستيفانو وزيزينيا، وهي غالبًا ما تعود إلى منازل أو مبانٍ تخص العائلات الأجنبية الثرية التي عاشت في المدينة خلال القرن العشرين.
تُظهر هذه الاكتشافات أن الإسكندرية لم تكن فقط مدينة المتوسط التجارية، بل كانت أيضًا جسرًا حضاريًا يربط الشرق بالغرب. فكل حجرٍ فيها يحكي قصة تلاقٍ بين الثقافة المصرية والتراث الإغريقي والروماني في مزيجٍ نادرٍ لا مثيل له في العالم.
التحليل الأثري والتقني لمحتويات الكبسولة
قام فريق من خبراء الترميم والتحليل المعدني في وزارة السياحة والآثار بإجراء فحص علمي دقيق لمحتويات الكبسولة باستخدام تقنيات الأشعة السينية والتحليل الطيفي لتحديد نسب المعادن والعناصر المكونة للعملات.
وأظهرت النتائج أن الذهب المستخدم في العملات الملكية المصرية آنذاك يتميز بدرجة نقاء عالية تصل إلى 97%، بينما احتوت العملات الفضية على نسب متفاوتة من النحاس لزيادة صلابتها.
أما الوثيقة، فقد كُتبت على ورق مصنوع من ألياف القطن النقي، وهو ما ساعدها على البقاء محفوظة رغم الرطوبة العالية في تربة الإسكندرية الساحلية.
أهمية الاكتشاف في توثيق التاريخ النقدي لمصر
تكمن أهمية هذا الاكتشاف في أنه يقدّم دليلًا ماديًا نادرًا على تداول العملات المصرية خلال الفترة الملكية المبكرة، ويعكس مراحل تطور النظام النقدي في مصر ما بين العهد العثماني المتأخر والدولة الحديثة.
كما أنه يكشف عن مدى انتشار العملات المصرية بين الجاليات الأجنبية المقيمة في الإسكندرية، ما يدل على اندماجهم الكامل في الاقتصاد المحلي، واحترامهم للرموز الوطنية المصرية.
الإسكندرية... مدينة تعانق التاريخ
من خلال هذا الاكتشاف، تتجلّى مرة أخرى هوية الإسكندرية الفريدة التي جمعت على أرضها حضاراتٍ متعددة.
فالكبسولة ليست مجرد وعاءٍ معدني، بل رسالة من الماضي تحمل رموزًا للثقة في المستقبل، وتُجسّد روح المدينة التي طالما كانت جسرًا بين الشرق والغرب.
الإسكندرية لم تكن يومًا مجرد ميناء، بل مدينة ذاكرة، تحفظ في باطنها أسرار التاريخ، وتمنح كل جيلٍ فرصة لاكتشاف نفسه من خلال آثار أجداده.
إن اكتشاف الكبسولة الرصاصية في فيلا سلفاجو بالإسكندرية يُعدّ من أهم الاكتشافات الأثرية الحديثة في مصر، لما يحمله من قيمة رمزية وثقافية وتاريخية فريدة.
فهو يجمع بين التاريخ النقدي، والهوية الثقافية، والتراث المعماري، ويعكس عمق العلاقة بين الإنسان والمكان في هذه المدينة الساحرة التي لا تزال تُدهشنا بأسرارها المدفونة في الرمال.










تعليقات
إرسال تعليق