فيلا لوتساتو باشا – تحفة معمارية خالدة تروي حكاية الجمال في قلب الإسكندرية
فيلا لوتساتو باشا – تحفة معمارية خالدة تروي حكاية الجمال في قلب الإسكندرية
في قلب شارع فؤاد التاريخي – أحد أقدم شوارع العالم المأهولة حتى اليوم – تقف فيلا لوتساتو باشا (Luzzatto Pasha) كجوهرة منسية وسط صخب المدينة الحديثة، تحمل بين جدرانها رائحة الزمن الجميل، وتشهد على حقبة كانت فيها الإسكندرية عاصمة الفن والذوق الأوروبي الشرقي الفريد.
هذه الفيلا ليست مجرد مبنى أثري، بل هي وثيقة حية على تلاقي الثقافات في مدينة كانت ولا تزال بوتقةً لتفاعل الشرق والغرب، ومثالًا على العمارة الكلاسيكية الإيطالية التي ازدهرت في الإسكندرية في مطلع القرن العشرين.
لمحة تاريخية عن فيلا لوتساتو باشا
تعود قصة فيلا لوتساتو باشا إلى عام 1909م، حين كُلّف المهندس الإيطالي الشهير فيليبو بيني بك (Filippo Pini Bey) بتصميمها وبنائها في قلب شارع فؤاد، الذي كان يُعرف قديمًا باسم شارع باب رشيد.
كان هذا المهندس من أبرز المعماريين الذين ساهموا في رسم ملامح وسط البلد بالإسكندرية، ومن أعماله العديد من المباني ذات الطراز الأوروبي المهيب الذي ميّز المدينة في تلك الفترة.
أما صاحب الفيلا فهو أوجستو لوتساتو باشا (Augusto Luzzatto Pasha)، أحد رجال الاقتصاد والبنوك البارزين في مصر الملكية. ينتمي لوتساتو إلى عائلة إيطالية عريقة من مدينة "ترييستي" (Trieste) في شمال إيطاليا، والتي استقرت في الإسكندرية في منتصف القرن التاسع عشر، وساهمت في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمدينة.
لوتساتو باشا – شخصية بارزة في المجتمع السكندري
كان أوجستو لوتساتو باشا مثالًا لرجل الأعمال الأوروبي المثقف في مصر الحديثة.
بدأ مسيرته في القطاع المصرفي، وحقق نجاحًا كبيرًا جعله من الشخصيات المرموقة في عالم المال. ومع مرور الوقت، حصل على رتبة الباشوية من الخديوي تقديرًا لجهوده في تطوير النشاط الاقتصادي بالإسكندرية.
كما كان لوتساتو معروفًا بحبه للفنون والموسيقى، وكان من دعاة الحركة الثقافية في المدينة، وساهم في دعم العديد من الجمعيات الخيرية والتعليمية.
وزادت مكانته الاجتماعية حين تزوّج من إحدى سيدات عائلة البارون "منشا"، وهي من العائلات اليهودية الثرية التي لعبت دورًا بارزًا في النهضة الاقتصادية بالإسكندرية.
الطراز المعماري لفيلا لوتساتو باشا
تُعد الفيلا نموذجًا مثاليًا لطراز عصر النهضة الجديدة (Neo-Renaissance Architecture)، وهو طراز معماري ظهر في أوروبا في القرن التاسع عشر، يتميّز بالفخامة والتناظر والدقة الكلاسيكية.
الواجهة الرئيسية
الواجهة الأمامية للفيلا تخطف الأنظار بفخامتها واتزانها:
-
تتكون من أربع نوافذ كبيرة تتوّجها خمس شرفات (بلكونات) أنيقة ذات درابزينات حديدية منحوتة.
-
يتوسط الواجهة مدخل ضخم ذو قوس نصف دائري يعبّر عن الهيبة والوقار.
-
الزخارف الحجرية الدقيقة التي تُزيّن النوافذ والأعمدة تُبرز مهارة الحرفيين الإيطاليين الذين عملوا في البناء.
التوزيع الداخلي
يتكوّن المبنى من أربعة طوابق متناسقة من حيث الارتفاع والتصميم:
-
البدروم:
خصص للمطابخ وغرف الخدم والمخازن، بما يتوافق مع النظام الأوروبي في تصميم الفيلات الكبرى. -
الطابق الأرضي:
يحتوي على مدخل رئيسي فخم وسلّم رخامي واسع يؤدي إلى البهو المركزي وغرف الاستقبال المطلة على الشارع، والتي كانت تُستخدم لاستقبال كبار الزوار ورجال المجتمع. -
الطابق الأول:
يضم غرف المعيشة الخاصة وغرف النوم التي تطل على شرفات تطل على شارع فؤاد، بالإضافة إلى مكتبة صغيرة وغرفة موسيقى. -
السطح:
يحتوي على غرف الخدم المقيمات وغرف الغسيل، إلى جانب مساحة مفتوحة كانت تُستخدم كحديقة علوية صغيرة.
تغيّر أرقام وعناوين الفيلا عبر الزمن
في مطلع القرن العشرين، كانت الفيلا تُعرف بعنوان رقم 80 شارع فؤاد، وهو أحد العناوين الراقية التي سكنت فيها النخبة الأوروبية بالإسكندرية.
ومع إعادة ترقيم الشوارع عام 1939، أصبح عنوانها رقم 95 شارع فؤاد، في منطقة وسط البلد، بالقرب من مبانٍ تاريخية أخرى مثل المعهد الإسباني وفندق متروبول الشهير.
الإدراج في قائمة التراث المعماري بالإسكندرية
اليوم، وبعد مرور أكثر من 115 عامًا على بنائها، لا تزال فيلا لوتساتو باشا صامدة بكل تفاصيلها المعمارية الأصلية.
وقد أدرجها الجهاز القومي للتنسيق الحضاري رسميًا ضمن قائمة المباني ذات القيمة المعمارية المتميزة تحت رقم (595)، لما تمثله من أهمية تاريخية وفنية كبيرة.
هذا التصنيف يضمن حماية المبنى من الهدم أو التغيير الجذري، ويؤكد على ضرورة الحفاظ عليه كأحد رموز التراث السكندري الأوروبي الذي ميّز المدينة عن باقي مدن البحر المتوسط.
من فيلا أرستقراطية إلى صرح تعليمي
من المدهش أن الفيلا لم تفقد دورها الحيوي رغم تغير الزمن.
فاليوم أصبحت مقرًا لـ مدرسة بلقيس التجريبية لغات، وهي مؤسسة تعليمية حديثة تعمل داخل هذا الصرح التاريخي.
وقد تم تكييف المبنى بعناية ليتناسب مع الاستخدام الجديد دون المساس بالعناصر المعمارية والزخرفية الأصلية، ما يجعلها نموذجًا ناجحًا في إعادة توظيف المباني التراثية في الإسكندرية.
شارع فؤاد... المتحف المفتوح للإسكندرية
تُعد فيلا لوتساتو باشا جزءًا من النسيج العمراني الفريد الذي يميّز شارع فؤاد، أحد أقدم شوارع الإسكندرية والعالم.
يضم الشارع مجموعة مدهشة من الفيلات والقصور والمباني الأوروبية التي تعود إلى حقبة ازدهار المدينة بين القرنين التاسع عشر والعشرين.
ومن أبرز جيران فيلا لوتساتو باشا، مبنى المعهد الإسباني الذي كان في الأصل فيلا أوروبية فاخرة هو الآخر، مما يجعل المنطقة أشبه بـ متحف مفتوح للعمارة الكوزموبوليتية التي طبعت وجه الإسكندرية في عصرها الذهبي.
القيمة الثقافية والمعمارية للفيلا
تمثل فيلا لوتساتو باشا أكثر من مجرد مبنى أثري؛ إنها شاهد على التنوّع الثقافي والاقتصادي والاجتماعي الذي شكّل هوية الإسكندرية الحديثة.
فكل حجرٍ فيها يروي قصة اندماج الجالية الإيطالية في نسيج المدينة، ومساهمتها في بناء ملامحها العمرانية والحضارية.
هي أيضًا رمزٌ لاستمرار الحياة في المباني القديمة؛ إذ استطاعت الفيلا أن تتكيّف مع الزمن وتستمر في أداء دورها المجتمعي، محافظةً على رونقها وجمالها المعماري دون أن تفقد جوهرها التاريخي.
تظل فيلا لوتساتو باشا واحدة من أجمل الشواهد على العمارة الأوروبية في الإسكندرية، وعلى مرحلة من تاريخ المدينة كانت فيها الثقافة والفن جزءًا من الحياة اليومية.
إنها تحفة معمارية خالدة، تمزج بين الأصالة والحداثة، وتُذكّرنا بأن الجمال الحقيقي لا يزول، بل يجد دائمًا طريقة ليُكمل حياته في ثوبٍ جديد.






تعليقات
إرسال تعليق